منتديات حبة البركة

منتديات حبة البركة (https://www.seedoil.net/vb/index.php)
-   ثقاقة عامة وشعر (https://www.seedoil.net/vb/forumdisplay.php?f=17)
-   -   الغموض في الشعر بين الإبداع والتعقيد (https://www.seedoil.net/vb/showthread.php?t=403)

مجموعة انسان 10-03-2010 12:53 AM

الغموض في الشعر بين الإبداع والتعقيد
 
ان اللغة العربية بحر خضم عظيم ساحله خصبة تربته، واللغة بطبيعة الحال اداة للتواصل بين البشرية بعضها مع بعض، فالكلام صادر وموجه الى الآخر لايصال فكرة او لطلب شيء او لاي غرض يقصده المتكلم، فالغرض من ذلك هو ان يفهم السامع عليك، وان يعي ما تقول لكي يتحقق لك بذلك ما تريده من ايصال معلومة او تصحيح فكر او غيره، وعندما قالوا ان البلاغة هي ايصال المعنى للسامع دون اي غموض فهذا هو المقصود الذي ذكرناه قبل. وفي اللغة العربية تتعدد اساليب الخطاب الموجه في طرقه وكيفياته فتستطيع ان توصل فكرة بالمقالة او بالمسرحية او بالشعر او بالنشر او بالقصة بانواعها وهكذا. وايصال فكرة او معالجة موضوع لكي يتم القصد منه لابد من ان يكون مفهوما للسامع دون تعقيد لفظي او معنوي او لغوي.
وقد شارع كثيرا هذا الغموض وادخال الفلسفة في هذه الاغراض الادبية، مما تأباه اللغة وتنكره القريحة. فاصبح من الابداع ان تأتي بشيء لا يفهمه غيرك، ومن الابداع ان تتكلم كلاما يحار الناس في تفسيره، وتضطرب الافكار في فك رموزه وكل ذلك كان من التأثر بالفلسفات الغربية والادب الغربي.
وقد طلع علينا مذهب غريب من الغرب واحدث في العالم ضجة وهو مذهب اللامعقول (Absurd) وراج هذا المذهب في فرنسا وقد لفت انظار المثقفين اليه وتأثر به البعض في انتاجهم الادبي. وهذا المذهب يعبر عن السخرية المريرة من منطق الحياة التقليدي وعدم الثقة فيه. وانما كان ذلك الخيال المتسع عندهم ومحاكاة اللامعقول ووصف الامور الغيبية ـ ناتجا عن التعلق بالماديات، حيث انهم ينكرون ـ كما هو فكر الفلاسفة ومن نحا نحوهم ـ الامور الغيبية والروحية، ولا يعتقدون الا بما يشاهدونه عيانا، وبما هو محسوس. وهذا فكر سقيم ولذلك احتاجوا اللجوء الى اللامعقول والخيال الفسيح لكي ينفسوا عن ارواحهم التي تعبت من التعلق بالماديات والانسان بطبيعته يحب الامور الروحية، وتنطلق بها روحه وتجوب ساحات المعاني الاخرى التي تنفس له عن تعب الحياة ومادياتها المملة. من اجل ذلك كله كان اللجوء من الغربيين واللادينيين والفلاسفة الى هذه الاغراض في اللامعقول ومحاكاة الغيب والخيالات وربما كان هذا هو الدافع لنشوء المذهب الرومانتيكي الذي يهدف الى الخيال والتحرر الوجداني والفرار من الواقع والتخلص من التقيد بالاصول الفنية التقليدية للادب بشتى مجالاتها القواعدية والفكرية. وكذلك من يطالع الادب الغربي يجد فيه كثيرا من هذا الخيال وما روايات دون كيشوت وخيالاته الواسعة عنا ببعيد اما نحن وفي لغتنا العربية فليس ثمة شيء من هذا ابدا بل هي مبنية على الوضوح والابداع في الاداء والتعبير واختيار الكلمات المناسبة للجمل المناسبة والمجيء بالمعنى الصالح للواقع الحاضر بحيث لا يدخل شيء في شيء ولا يلتبس معنى بمعنى.

مجموعة انسان 10-03-2010 12:57 AM

صحيح انه قد ورد عن بعضهم في الازمان الفائتة بعض الشعر الغامض الذي لا تجد له حلا ولا تستطيع ان تعرف له مخرجا فهذا كذلك قد لاقى انكارا من بعض اهل الادب وقالوا بتركه وتسليم معناه لقائله. فاذن يبقى الوضوح مع دقة المعاني وفصاحة الالفاظ هو الرائد المعتمد والاساس في الادب العربي. وربما نشوء الادباء حديثي السن وانبهارهم بهذا وهذا التشوش هو الذي اخصب انتشاره فيما بيننا وجعله فنا يتسابق الادباء الى تحقيقه. وعليهم ينطبق قول نزار قباني:
شعراء هذا اليوم جنس ثالث
فالقول فوضى والكلام ضباب
فليس الافراط بمقبول ولا التفريط بمرتضى بل ان قوة المعاني وسباكة الالفاظ وابداع الصور في العمل الادبي هو الذي يعطي العمل رقيا وابداعا. فعندما نقرأ لشوقي مثلما:
وروض كما شاء المحبون ظله
لهم ولاسرار الغرام مديد
تظللنا والطير في جنباته
غصون قيام للنسيم سجود
تميل الى مضنى الغرام وتارة
يعارضها مضنى الصبا فتحيد
فانك تفهم ما يقوله الشاعر وسرعان ما ترتسم هذه الصورة الرائعة في ذهنك وقد جمع بين معنى واضح ولفظ قوي وصورة بديعة. فهذا ما يسمى ادبا.
اما اذا قرات عملا ادبيا ـ وكنت اديبا فضلا عن كونك غير اديب ـ ولا تفهم منه شيئا الا ألما في الفكر من زحمة الكلمات وتشتت المعنى فلا اظنه الا عملا جديرا به البحر ان يتلقفه ليخبئه عن اعين الحاسدين. فمثلا كتب بعضهم يقول:
وقفت كل الموت في الطابور
لم يسمع خطاي سواك
والان في فوضى الهلاوس تخبزين الماء
حتى يعرف التنور ارغفتي البريئة
وغير ذلك الكثير
وعابوا قديما على حسان بن ثابت قوله:
ولو ان مجدا اخلد الدهر واحدا
من الناس ابقى مجده الدهر مطعما
وعابوا على الفرزدق قوله الغامض والمعقد:
وما مثله في الناس الا مملكا
ابو امه حي ابوه يقاربه
وقول المتنبي
كيف يكون ابا البرايا ادم
وابوك والثقلان انت محمد
فانك تجد في هذه الابيات من الغموض ما يحجب عنك معناه ويصعب النطق به والوصول للغرض الذي قيل هذا الكلام من اجله. وفي أخرةٍ نستخلص مما مر ان الابداع كائن في فصاحة اللفظ وابداع الصور وقوة التركيب وجزالة المعنى. وان المجيء بالغموض سواء في التركيب او في المعنى او في اللفظ غير موافق لما عليه الادب العربي وتستهجنه الافكار السليمة وان نادى به المنادون وصفق له الناس ورحبوا فلا يعبأ به ولا يلتفت اليه.


جعفر عبدالله الوردي


الساعة الآن 12:40 PM.

Powered by vBulletin
Copyright ©2000 - 2024