أما الفرصة الثالثة
أن تغتنم فرصة ((غناك قبل فقرك))؛ بأن تكثر من الصدقات، وبذل المال في وجوه الخير، قبل تغير أحوالك الاقتصادية، أو قبل تغير أحوال المجتمع، الذي من حولك؛ فإن أعظم الصدقة أن تتصدق وأنت صحيح شحيح؛ تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغتِ الحلقوم قلتَ: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان.
إنها فرصة أن تتعرف على الله في الرخاء؛ ليعرفك في الشدة؛ كما ويحتمل أن يكون معنى قوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: ((وغناك قبل فقرك)): أن يكون هذا إنذارًا للغني من الفقر؛ إذا لم يُنفقْ من ماله في وقت الغنى؛ لا سيما وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أخبرنا بأن مَلكيْن يدعوان كل صباح: ((اللهم أعطِ منفقًا خلفًا، وأعطِ ممسكًا تلفًا)).
لقد أخبرنا الله عز وجل بأن المسلم؛ ليتمنى إذا مات؛ لو أنه أعطي فرصة أخرى للعودة إلى الحياة؛ لا ليتمتع فيها، أو يلهو فيها، وإنما ليتصدق ويكون صالحًا؛ ويبادر إلى الفرص التي فاتته طَوال حياته؛ قال الله تعالى: وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَـٰكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ * وَلَن يُؤَخّرَ ٱللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:10، 11].
الفرصة الرابعة:
أن تغتنم ((فراغك قبل شَغَلك))؛ أي: أن تغتنم أوقات الفراغ في شَغْلِ النفس بما ينفعك؛ فالنفس إن لم تشغلْها بالحق شغلتك بالباطل؛ أن تغتنم فرصة فراغك لتصرفه ليس في سياحة ولا في لهو؛ وإنما فيما ينفعك في أمر دينك ودنياك؛ أن تستغل هذا الفراغ ـ الذي يكثر في مرحلة الشباب، وقبل تحمل المسؤوليات ـ، أن تستغله في حفظ كتاب الله وتعلم العلم الشرعي؛ لأنك إذا كبرت قد تخجل أن تتعلم، وقد يصعب عليك الحفظ؛ بل ولا تجد الوقت الكافي للتعلم؛ لأنك ستكتشف؛ أن الواجباتِ أكثر من الأوقات؛ ولهذا صدَق عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما قال: (تعلموا العلم قبل أن تسودوا)؛ أي: تعلَّمْ قبل أن تصبح مسؤولاً، وتنشغل، فلا تجد الوقت للتعلم؛ كما وإن الاستفادة من العلماء، والتعلم منهم عن قرب قبل موتهم فرصة لا تعوض، وقد قال صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: ((إن الله لا يَقبضُ العلمَ انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يَقْبضُ العلمَ بقبْضِ العلماء؛ حتى إذا لم يُبق عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالاً، فسُئِلوا فأفْتَوا بغير علم، فضِّلوا وأضَلُّوا)) مسلم.
ففرصة عظيمة أخي المسلم أن تغتنم ((فراغك قبل شَغَلِك)).
الفرصة الخامسة والأخيرة في هذا الحديث:
أن تغتنم ((حياتك قبل موتك))؛ بأن تقدم لنفسك ما ينفعك بعد موتك، ولا تسوِّف؛ حتى إذا جاء الموت قلت: يٰلَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى [الفجر:24]، يا ليتني تصدقت، ويا ليتني صمت، ويا ليتني صليت، ويا ليتني فعلت...؛ فيكون حالك كحال الذين قال الله تعالى عنهم: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ ٱلإِنسَـٰنُ وَأَنَّىٰ لَهُ ٱلذّكْرَىٰ * يَقُولُ يٰلَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى [الفجر:23، 24].
إن وجودك في هذه الحياة أعظم فرصة لجمع الحسنات وَللرُّقِيِّ في الجنة إلى أعلى الدرجات؛ فاغتنامُ حياتك قبل موتك؛ يكون بالمبادرة إلى التوبة قبل حلول الأجل، وقبل أن تغرغر فتلتف الساق بالساق.
فقد قال صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: ((إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)).
فإن اغتنام فرصة الحياة قبل الممات؛ هو أن تغتنم وقتك فلا تضيعْه في لهوٍ بَلهَ معصية. فكم من مستقبلٍ يومًا لا يستكملُه، وكم من مُؤمِّل غدًا لا يدركُه
وقد صحَّ عن الحسن البصري أنه قال: "ما من يوم ينشق فجرُه إلا وينادي: يا ابن آدم أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فتزودْ مني بعمل صالح؛ فإني إذا مضيت؛ لا أعود إلى يوم القيامة".
ساعد في النشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك